كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قُلْ أي شَيْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} [الأنعام: 19] فإن حقيقة الشيء هو الموجود فيكون مثل مثله شيء وهو منفي بقولنا: ليس مثل مثله شيء، فعلم أن الكلام لا يخرج عن إفادة التوحيد، فعلم أن الحمل على الحقيقة يفيد في الكلام مبالغة في قوله تعالى: {كأمثال} وأما عدم الحمل عليها في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} فهو أوجز فتجعل الكاف زائدة لئلا يلزم التعطيل، وهو نفي الإله، نقول: فيه فائدة، وهو أن يكون ذلك نفيًا مع الإشارة إلى وجه الدليل على النفي، وذلك لأنه تعالى واجب الوجود، وقد وافقنا من قال بالشريك، ولا يخالفنا إلا المعطل، وذلك إثباته ظاهرًا، وإذا كان هو واجب الوجود فلو كان له مثل لخرج عن كونه واجب الوجود، لأنه مع مثله تعادلًا في الحقيقة، وإلا لما كان ذلك مثله وقد تعدد فلابد من انضمام مميز إليه به يتميز عن مثله، فلو كان مركبًا فلا يكون واجبًا لأن كل مركب ممكن، فلو كان له مثل لما كان هو هو فيلزم من إثبات المثل له نفيه، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} إذا حملناه أنه ليس مثل مثله شيء، ويكون في مقابلته قول الكافر: مثل مثله شيء فيكون مثبتًا لكونه مثل مثله ويكون مثله يخرج عن حقيقة نفسه ومنه لا يبقى واجب الوجود فذكر المثلين لفظًا يفيد التوحيد مع الإشارة إلى وجه الدليل على بطلان قول المشرك ولو قلنا: ليس مثله شيء يكون نفيًا من غير إشارة إلى دليل، والتحقيق فيه أنا نقول: في نفي المثل ردًا على المشرك لا مثل لله، ثم نستدل عليه ونقول: لو كان له مثل لكان هو مثلًا لذلك المثل فيكون ممكنًا محتاجًا فلا يكون إلهًا ولو كان له مثل لما كان الله إلهًا واجب الوجود، لأن عند فرض مثل له يشاركه بشيء وينافيه بشيء، فيلزم تركه فلو كان له مثل لخرج عن حقيقة كونه إلهًا فإثبات الشريك يفضي إلى نفي الإله فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} توحيد بالدليل وليس مثله شيء توحيد من غير دليل وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعدما فرغت من كتابة هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائد لا أحصيها، وأما قوله تعالى: {اللؤلؤ المكنون} إشارة إلى غاية صفائهن أي اللؤلؤ الذي لم يغير لونه الشمس والهواء.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)}.
وفي نصبه وجهان أحدهما: أنه مفعول له وهو ظاهر تقديره فعل بهم هذا ليقع جزاء وليجزون بأعمالهم، وعلى هذا فيه لطيفة: وهي أن نقول: المعنى أن هذا كله جزاء عملكم وأما الزيادة فلا يدركها أحد منكم وثانيهما: أنه مصدر لأن الدليل على أن كل ما يفعله الله فهو جزاء فكأنه قال: تجزون جزاء، وقوله: {بِمَا كَانُوا} قد ذكرنا فائدته في سورة الطور وهي أنه تعالى قال في حق المؤمنين: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] وفي حق الكافرين: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7] إشارة إلى أن العذاب عين جزاء ما فعلوا فلا زيادة عليهم، والثواب: {جَزَاء مّمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فلا يعطيهم الله عين عملهم، بل يعطيهم بسبب عملهم ما يعطيهم، والكافر يعطيه عين ما فعل، فيكون فيه معنى قوله تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يَجْزِي إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها فالأولى: قالت المعتزلة: هذا يدل على أن يقال: الثواب على الله واجب، لأن الجزاء لا يجوز المطالبة به، وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه وهو ما ذكروه.
ولو صح لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، وذلك لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح وعلم بالعقل أن القبيح من الله لا يوجد علم أن الله يعطي هذه الأشياء لأنها أجزية، وإيصال الجزاء واجب، وأما إذا قلنا: بمذهبنا تكون الآيات مفيدة مبشرة، لأن البشارة لا تكون إلا بالخير عن أمر غير معلوم، لا يقال: الجزاء كان واجبًا على الله وأما الخبر بهذه الأشياء فلا يذكرها مبشرًا، لأنا نقول: إذا وجب نفس الجزاء فما أعطانا الله تعالى من النعم في الدنيا جزاء فثواب الآخرة لا يكون إلا تفضلًا منه، غاية ما في الباب أنه تعالى كمل النعمة بقوله: هذا جزاؤكم، أي جعلته لكم جزاء، ولم يكن متعينًا ولا واجبًا، كما أن الكريم إذا أعطى من جاء بشيء يسير شيئًا كثيرًا، فيظن أنه يودعه إيداعًا أو يأمره بحمله إلى موضع، فيقول له: هذا لك فيفرح، ثم إنه يقول: هذا إنعام عظيم يوجب على خدمة كثيرة، فيقول له هذا جزاء ما أتيت به، ولا أطلب منك على هذا خدمة، فإن أتيت بخدمة فلها ثواب جديد، فيكون هذا غاية الفضل، وعند هذا نقول: هذا كله إذا كان الآتي غير العبد، وأما إذا فعل العبد ما أوجب عليه سيده لا يستحق عليه أجرًا، ولاسيما إذا أتى بما أمر به على نوع اختلال، فما ظنك بحالنا مع الله عز وجل، مع أن السيد لا يملك من عبده إلا البنية، والله تعالى يملك منا أنفسنا وأجسامنا، ثم إنك إذا تفكرت في مذهب أهل السنة تجدهم قد حققوا معنى العبودية غاية التحقيق، واعترفوا أنهم عبيد لا يملكون شيئًا ولا يجب للعبد على السيد دين، والمعتزلة لم يحققوا العبودية، وجعلوا بينهم وبين الله معاملة توجب مطالبة، ونرجوا أن يحقق الله تعالى معنا المالكية غاية التحقيق، ويدفع حاجاتنا الأصلية ويطهر أعمالنا، كما أن السيد يدفع حاجة عبده بإطعامه وكسوته، ويطهر صومه بزكاة فطره، وإذا جنى جناية لم يمكن المجنى عليه منه، بل يختار فداءه ويخلص رقبته من الجناية، كذلك يدفع الله حاجاتنا في الآخرة، وأهم الحاجات أن يرحمنا ويعفو عنا، ويتغمدنا بالمغفرة والرضوان، حيث منع غيره عن تملك رقابنا باختيار الفداء عنا، وأرجو أن لا يفعل مع إخواننا المعتزلة ما يفعله المتعاملان في المحاسبة بالنقير والقطمير، والمطالبة بما يفضل لأحدهما من القليل والكثير.
المسألة الثانية:
قالوا: لو كان في الآخرة رؤية لكانت جزاء، وقد حصر الله الجزاء فيما ذكر والجواب عنه: أن نقول: لم قلتم: إنها لو كانت تكون جزاء، بل تكون فضلًا منه فوق الجزاء، وهب أنها تكون جزاء، ولكن لم قلتم: إن ذكر الجزاء حصر وإنه ليس كذلك، لأن من قال لغيره: أعطيتك كذا جزاء على عمل لا ينافي قوله: وأعطيتك شيئًا آخر فوقه أيضًا جزاء عليه، وهب أنه حصر، لكن لم قلتم: إن القربة لا تدل على الرؤية، فإن قيل: قال في حق الملائكة: {وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172]، ولم يلزم من قربهم الرؤية، نقول: أجبنا أن قربهم مثل قرب من يكون عند الملك لقضاء الأشغال، فيكون عليه التكليف والوقوف بين يديه بالباب تخرج أوامره عليه، كما قال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقرب المؤمن قرب المنعم من الملك، وهو الذي لا يكون إلا للمكالمة والمجالسة في الدنيا، لكن المقرب المكلف ليس كلما يروح إلى باب الملك يدخل عليه وأما المنعم لا يذهب إليه إلا ويدخل عليه فظهر الفرق.
والذي يدل على أن قوله: {أولئك المقربون} [الواقعة: 11] فيه إشارة إلى الرؤية هو أن الله تعالى في سورة المطففين ذكر الأبرار والفجار، ثم إنه تعالى قال في حق الفجار: {إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وقال في الأبرار: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطففين: 28] ولم يذكر في مقابلة المحجوبون ما يدل على مخالفة حال الأبرار حال الفجار في الحجاب والقرب، لأن قوله: {لَفِي عِلّيّينَ} [المطففين: 18] وإن كان دليلًا على القرب وعلو المنزلة لكنه في مقابلة قوله: {لَفِي سِجّينٍ} [المطففين: 7] فقوله تعالى في حقهم: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون} مع قوله تعالى: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون لجلساء الملك عند الملك، وقوله في حق الملائكة في تلك السورة:
{يَشْهَدُهُ المقربون} [المطففين: 21] يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون للكتاب والحساب عند الملك لما أنه في الدنيا يحسد أحدهما الآخر، فإن الكاتب إن كان قربه من الملك بسبب الخدمة لا يختار قرب الكتاب والحساب، بل قرب النديم، ثم إنه بين ذلك النوع من القرب وبين القرب الذي بسبب الكتابة ما يحمله على أن يختار غيره، وفي سورة المطففين قوله: {لَّمَحْجُوبُونَ} يدل على أن المقربين غير محجوبين عن النظر إلى الله تعالى، وينبغي أن لا ينظر إلى الله قولنا: جلساء الملك في ظاهر النظر الذي يقتضي في نظر القوم الجهة وإلى القرب الذي يفهم العامي منه المكان إلا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.
المسألة الثالثة:
قالوا قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على أن العمل عملهم وحاصل بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم في الحقيقة اللغوية وضع للفعل والمجنون للذي لا عقل له والعاقل للذي بلغ الكمال فيه، وذلك ليس إلا بوضع اللغة لما يدرك بالحس، وكل أحد يرى الحركة من الجسمين فيقول: تحرك وسكن على سبيل الحقيقة، كما يقول: تدور الرحا ويصعد الحجر، وإنما الكلام في القدرة التي بها الفعل في المحل المرئي، وذلك خارج عن وضع اللغة.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما الحكمة في تأخير ذكره عن الجزاء مع أنه من النعم العظيمة؟ نقول فيه لطائف الأولى: أن هذا من أتم النعم، فجعلها من باب الزيادة التي منها الرؤية عند البعض ولا مقابل لها من الأعمال، وإنما قلنا: إنها من أتم النعم، لأنها نعمة سماع كلام الله تعالى على ما سنبين أن المراد من قوله: {سَلاَمًا} هو ما قال في سورة يس: {سَلاَمٌ قولا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] فلم يذكرها فيما جعله جزاء، وهذا على قولنا: {أولئك المقربون} [الواقعة: 11] ليس فيه دلالة على الرؤية الثانية: أنه تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وهي الرؤية بالنظر كما مر وختم بمثلها، وهي نعمة المخاطبة الثالثة: هي أنه تعالى لما ذكر النعم الفعلية وقابلها بأعمالهم حيث قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24] ذكر النعم القولية في مقابلة أذكارهم الحسنة ولم يذكروا اللذات العقلية التي في مقابلة أعمال قلوبهم من إخلاصهم واعتقادهم، لأن العمل القلبي لم ير ولم يسمع، فما يعطيهم الله تعالى من النعمة تكون نعمة لم ترها عين ولا سمعتها أذن، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيها: «مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وقوله عليه السلام: «ولا خطر» إشارة إلى الزيادة، والذي يدل على النعمة القولية في مقابلة قولهم الطيب قوله تعالى: {إِنَّ الذين قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ} إلى قوله: {نُزُلًا مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 32].
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا} نفي للمكروه لما أن اللغو كلام غير معتبر، لأنه عند المعتبرين من الرجال مكروه، ونفي المكروه لا يعد من النعم العظيمة التي مر ذكرها، كيف وقد ذكرت أن تأخير هذه النعمة لكونها أتم، ولو قال: إن فلانًا في بلدة كذا محترم مكرم لا يضرب ولا يشتم فهو غير مكرم وهو مذموم والواغل مذموم وهو الذي يدخل على قوم يشربون ويأكلون فيأكل ويشرب معهم من غير دعاء ولا إذن فكأنه بالنسبة إليهم في عدم الاعتبار كلام غير معتبر وهو اللغو، وكذلك ما يتصرف منه مثل الولوغ لا يقال إلا إذا كان الوالغ كلبًا أو ما يشبهه من السباع، وأما التأثيم فهو النسبة إلى الإثم ومعناه لا يذكر إلا باطلًا ولا ينسبه أحد إلا إلى الباطل، وأما التقديم فلأن اللغو أعم من التأثيم أي يجعله آثمًا كما تقول: إنه فاسق أو سارق ونحو ذلك وبالجملة فالمتكلم ينقسم إلى أن يلغو وإلى أن لا يلغو والذي لا يلغو يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيأخذ الناس بأقوالهم وهو لا يؤخذ عليه شيء، فقال تعالى: لا يلغو أحد ولا يصدر منه لغو ولا ما يشبه اللغو فيقول له: الصادق لا يلغو ولا يأثم ولا شك في أن الباطل أقبح ما يشبهه فقال: لا يأثم أحد.
المسألة الثالثة:
قال تعالى في سورة النبأ: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذابًا} [النبأ: 35] فهل بينهما فرق؟ قلنا: نعم الكذاب كثير التكذيب ومعناه هناك أنهم لا يسمعون كذبًا ولا أحدًا يقول لآخر: كذبت وفائدته أنهم لا يعرفون كذبًا من معين من الناس ولا من واحد منهم غير معين لتفاوت حالهم وحال الدنيا فإنا نعلم أن بعض الناس بأعيانهم كذابون فإن لم نعرف ذلك نقطع بأن في الناس كذابًا لأن أحدهم يقول لصاحبه: كذبت فإن صدق فصاحبه كذاب، وإن لم يصدق فهو كاذب فيعلم أن في الدنيا كذابًا بعينه أو بغير عينه ولا كذلك في الآخرة فلا كذب فيها، وقال ههنا: {وَلاَ تَأْثِيمًا} وهو أبلغ من التكذيب فإن من يقول في حق من لا يعرفه: إنه زان أو شارب الخمر مثلًا فإنه يأثم وقد يكون صادقًا، فالذي ليس عن علم إثم فلا يقول أحد لأحد: قلت مالا علم لك به فالكلام هاهنا أبلغ لأنه قصر السورة على بيان أحوال الأقسام لأن المذكورين هنا هم السابقون وفي سورة النبأ هم المتقون، وقد بينا أن السابق فوق المتقي.